على محمد العباس
الدولار الأمريكي.. نهاية الأكذوبة الكبرى
قال تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم .. وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه».. كثيرًا ما مرت على أسماعنا وأمام أعيننا فترة أزمة فيروس كورونا «كوفيد 19»، وما صاحبها من إنغلاق عالمي عبارة: «العالم بعد كورونا ليس كما هو قبلها»، وما تنفس العالم صعدائه لتجاوز مخلفاتها وآثارها ومع نهايات طي صفحتها ومع إطلالة عام 2022 كان العالم على موعد مع تكشير الأنياب لبداية عهد جديد من إنهاء هيمنة القطب الواحد على مدى ثلاثة عقود وضرب أهم أدواته في مقتل وهو «الدولار الأمريكي»، وبوادر ظهور المارد الشرقي بشقيه «الاقتصادي والعسكري»، وكانت بدايته الحرب الروسية -الأوكرانية لوأد فكرة دق أسفين للناتو وسط التكتل الشرقي (روسيا - الصين - كوريا الشمالية - ايران)، يقابله أمريكا بغطرستها والغرب الأوروبي ـ التابع حتى حين ـ تحت مسمى «حلف الناتو» الميت سريريا قبل الحرب بأيام ومحاولة إعادة إحيائه فيما بعد والتي تمثلت في: دمار شامل لأوكرانيا وتعطيل ثلث الاقتصاد العالمي، وسيل من العقوبات على روسيا لم يشهد التاريخ مثيلا له أملاً في شل اقتصادها وهدمها من الداخل، والإصرار الروسي والتخطيط العميق المسبق لكل ما متوقع جعل من العقوبات «الرنانة» مجرد حبر على ورق، فمن حيث الواقع باتت أوروبا الغربية هي أول ضحايا «المكر الأمريكي»، وتحول الدولار الأمريكي إلى موضع الدفاع عن نفسه بعد أن كان معول هدم وسلاح وهمي فتاك.
منذ إتفاقية «بريتن ـ وودز»، في يوليو عام 1944، والتي تلاعبت بمقدرات العالم بمكر وخبث أمريكي باعتماد غطاء الذهب للدولار الأمريكي، وإعلان (1$ = 35 أونصة ذهب).
1
استمرت أمريكا بموجب هذه الإتفاقية في حصد الذهب العالمي في خزانتها ومن ثم أعلن رئيسها «نيكسون» عام 1971: رفع غطاء الذهب عن الدولار، وأن قيمة الدولار لا تساوي أكثر من قيمة الأصباغ المصروفة على طبعه، وسميت حينها «صدمة نيكسون»، لكن أمريكا حافظت واحتفظت على ما يُبقِ الدولار الأمريكي مُعتَمداً كأداة تسوية من خلال، قوة الاقتصاد الأمريكي الذي يمثل حماية وغطاء لعملتها مسنودًا بقوة عسكرية تتحكم بالقوة في كل مّنْ يخرج عن طاعتها، وإقناع ومساعدة المملكة العربية السعودية (أكبر منتج ومصدر للنفط الخام في العالم حينئذ)، بوجوب قيد التعاملات النفطية بالدولار الأمريكي؛ فكانت تلك بوابة ايجاد «سندات الخزانة الأمريكية» وشيوع مصطلح «الذهب الأسود» كناية عن النفط ومردوداته بالدولار الأمريكي!.
2
بعد ثلاثة عقود من تفرد الغطرسة الأمريكية واعتبارها «القطب الأوحد» الذي لا يعترف بشرعية ولاعهود إن تطلب الأمر تنفيذ مخططاتها (وما عزو العراق واحتلاله إلا شاهدًا وشهيد)؛ ضاق العالم ذرعاَ بها وبالأخص الطرف الشرقي من العالم، وما أن ظنت أمريكا أنها أوقعت فريستها «روسيا» بالمصيدة؛ إلا وفوجئ العالم: أن نظام سويفت المعتمد على التسويات بالدولار الأمريكي فقد أهميته أمام نظامي دفع وتسويات بديله هما، نظام (S.P.F.S) الروسي، ونظام( C.I.P.S) الصيني، المطروحان كبديل تحويلات لنظام سويفت ومكمن خطورتهما أن عمليات التحويل والتبادل بين الدول المنظوية فيها تتم بالعملات المحلية لكل بلد كما يشاء (وهنا دخل الدولار الأمريكي صالة الإنعاش».
قرار روسيا صدر بالأمس الخميس 31 مارس 2022 وبدأ تنفيذه اعتباراً من يوم الجمعة 1 ابريل 2022 بحصر بيع الغاز الروسي بعملة الرويل الروسي حصرًا على «الدول غير الصديقة» والمعني بها أمريكا وأوروبا الغربية ـ التي لا تستطيع الاستغناء عن غاز روسيا ـ بعد فشل أمريكا والغرب في توفير البديل في وقت قياسي قبل انهيارها من الداخل.
3
امتناع دول «اوبك وأوابك» ـ نكاية بأمريكا وتأديباً لغطرستها ـ من زيادة إنتاجها جعل من أسعار النفط ومشتقاته والغاز البديل في حالة ارتفاع غير مسبوقة مما أدى إلى عدم قدرة المجتمعات الغربية في أوربا والداخل الأمريكي من تحمل أعباء ارتفاع الأسعار، وهذا ما ينذر بمستقبل مجهول لأنظمتها الحاكمة، وبالتالي إجبارها على التخلي عن أمريكا ورعونتها والعودة ذليلة إلى أحضان روسيا وغازها!.
4
كل هذا ولم تدخل الصين اللعبة بعد لحين اختيار الوقت المناسب لابتلاع تايوان في وقت يكون الغرب فيه عاجزًا تمامًا عن ردعها أو التصدي لها.
5
على الجانب الآخر من المعادلة هناك إيران التي بدأت كالمتحكم بمفاوضات برنامجها النووي، وهي من يضع الشروط أمام «خنوع» غربي لحاجته لنفطها وغازها في مغازلة لتحقيق أهدافها؛ ثم الانقلاب على عهودها وعودتها إلى تحالفها الرباعي مع روسيا والصين وكوريا الشمالية لإيجاد وفرض نظام عالمي جديد ليس كما قبل «كورونا»!.
لجوء أمريكا والغرب إلى الاستعانة بالإحتياطي الاستراتيجي ـ مرغمة ـ لمواجهة نقص إمدادات الطاقة سيؤدي لا محالة إلى نضوب احتياطها وهنا يلعب «الصبر والزمن» دورهما في استحالة عدم الإنفلات الشعبي الناجم عن ارتفاع بل ارتفاعات أسعار الطاقة في كل مفاصلها، بدليل إعلان تركيا يوم أمس رفع قيمة صادراتها على منتجات الطاقة بنسبة 50% (وهذا أول غيث التحكم البعيد الخارج عن السيطرة)، فما بالك إن بقيت مستويات الإمدادات النفطية على مستواها أو خفضها لغاية!.
6
قرار منع الطيران في الأجواء الروسية جاءعلى عكس ما يتمناه الغرب من غاية أدت نتيجته إلى خسارة أوروبا لـ 520 طائرة من نوعي بوينغ وايرباص جاثمة في مطارات روسيا، وتلاعب روسيا بخطوات قرار منع الطيران نفسه واستردادها جعلتها مكسبا لروسيا واستحالة استعادتها في تخبط واضح من جهة الغرب يقابله حنكة في رد الصاع من قبل روسيا.
7
الإتفاق «الروسي – الصيني» باستيراد ما يعادل مئات مليارات الدولار من نفط وغاز في 4 فبراير 2022 جاء ليجعل من مقاطعة الغرب لروسيا في مهب الريح ولا فائدة منه.
أول بوادر مؤشرات انهيار سلطة الدولار بدت واضحة للعيان والمراقب في انخفاض قيمة الدولار واليورو في البورصة أمام الروبل الروسي بعد إعلان قائمة «الدول غير الصديقة»، تلتها العبارة الأكثر قسوة تجاه الدولار الأمريكي «حصراَ» وعلى لسان الرئيس بوتين بمقولته: «من لم يشأ شراء الغاز الروسي من الدول غير الصديقة بالروبيل حصرًا فلا غاز هناك لروسيا يباع بالمجان».
تلك كانت إشارة إلى بداية أن الدولار الأمريكي سيعود إلى قيمته الحقيقية، وهي «أنه لا يساوي أكثر من قيمة كلفة طباعته»، وهنا باتت أمريكا ودولارها في حكم اللاوجود واللاقيمة بعد، وعليه يتطلب منا كعرب التأني واختيار زمام المبادرة في القرار لحفظ «هيبة منزوعة» آن أوان استرجاعها والتعامل بالمثل بل بأكثر، ومن ثم رسم سياسة إحترام وسيادة قرارها (وهذا ما تنم عنه أيامنا هذه ان لم يخذلوا انفسهم ) وخصوصاً أن كل الأمور في صالحهم وكلا المعسكرين بحاجة لهم على عكس ما مضى من عقود سنوات ذل وهوان .. والله المستعان.