على محمد العباس
تقلبات الأسعار.. والواقع العربي الصعب
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
لو تبحرنا قليلًا في هذه الآية الكريمة لوجدناها تنطبق تمامًا بتشبيه الحال هذه الأيام في كل أرجاء الأرض مشارقها ومغاربها.. فالعالم أجمع مر بمراحل هذه الآية الكريمة منذ أزمة فيروس كورونا والتي ملأت قلوب الناس رعبًا وخوفًا ونقص في الأموال والأنفس والثمرات؛ نتيجة الإغلاق التام بين دول العالم وعلى مدار سنة 2020 على مستوى الاقتصادات العالمية الكبرى (المتكاملة)، فما بالنا في اقتصادات العالم الثالث والتي تعتمد اقتصاداتها وتتأثر بشكل مباشر بكل متغير على الساحة العالمية!.
وما أن تنفس العالم بعض الإطمئنان وأعاد ترتيب أوراقه من جديد؛ حتى أصبح العالم على كارثة أخرى تكاد تعصف وتبعثر كل الأوراق وتضع العالم أجمع في حيرة من أمره، ألا وهي الحرب «الروسية – الأوكرانية»، علنًا ومن الداخل هي في الحقيقة حرب «الشرق مع الغرب»، والتي ألقت بظلالها على العالم أجمع؛ نتيجة سياسة القطب الواحد من جهة، وارتباط كامل (إن لم نقل أغلب) بين التبادلات التجارية والاقتصادية بكل أشكالها (بالدولار الأمريكي).
قد يسأل سائل: ما دخلنا كبلدان عالم ثالث في حرب بعيدة؟!، والجواب:
1- تتشابك الاقتصادات العالمية بعضها البعض الآخر بشبكة عنكبوتية معقدة يديرها وينظم مساراتها «نظام سويفت المصرفي»، وأساسه في التنظيم هو عملة الدولار الأمريكي وسطوته رغم وجود المنافسين ـ على درجات ـ مثل: اليورو الأوروبي، واليوان الصيني بشكل أساسي، يتبعها الروبل الروسي، والين الياباني، والجنيه الاسترليني بدرجات متفاوته.
2- الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وفرض «حزم العقوبات المتوالية» على روسيا؛ أدت إلى تعطيل أكثر من ثلث إمدادات العالم بالغذاء والطاقة (نتيجة توقف صادرات أكبر بلدين من القمح مثلًا)، والذي يكاد يكون الجزء الأساسي من الغذاء العالمي (لا فرق فيه بين دولة عظمى وأخرى محدودة الحال).
3- هذه المتغيرات ألقت بظلالها على «شُح المعروض» الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار العالمية بشكل مفاجيء من جهة يصاحبها ارتفاع أسعار التأمين من قِبل شركات النقل البحري على سفنها من جهة أخرى، وكل هذه الأمور تجعل من «التضخم الاقتصادي» واقع لا مُحال نتيجة ارتفاع حاد في الأسعار؛ ضحيته الفرد «الباحث عن الغذاء».
4- كل هذه الأمور مجتمعة تفرض على الدول أن تعمل على إيجاد وسائل «مالية - اقتصادية – سياسية» بديلة لمواجهة الحد من نسب التضخم المتصاعدة بوتيرة عالية.
أهم وأولى هذه السياسات تتمثل في تغيير أسعار الفائدة من قِبل البنوك المركزية (في محاولة لتقليل الاستيراد وتفعيل الصادرات) لإنعاش اقتصاداتها.
وبما أن دولة «المقياس العالمي» وهي أمريكا بطبيعتها لا تعتمد على تخزين المواد الغذائية وإنما تعتمد على «العرض اليومي المباشر» لأسواقها؛ باتت أكثر المتضررين من قطع تلك الإنسيابية، مما أدى إلى خلق حالة من التضخم غير المسبوق، فكان لا بد للبنك الفيدرالي الأمريكي من وضع خطة مواجهة التضخم بشكل سياسات مالية تمثلت برفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي وأعلنت عنه بالشكل التالي:
أنها ستعمل على تغيير سعر الدولار بالتوالي وعلى 7 دفعات تنتهي مع نهاية السنة الحالية ابتداءً من المرحلة الأولى التي بدأت في السادس عشر من مارس الجاري لعام 2022 والمتمثلة في رفع سعر الفائدة بمقدار 4/1 نقطة أي من (.0،25 الى 0.50) من النقطة؛ للحد من نسبة التضخم، في سعيها إلى معدل 0.02% في نهاية العام بعد أن وصلت بشكل مفاجيء إلى ( 7 - 8 %).
ستلي هذه الخطوة الدفعة الثانية في شهر أبريل / نيسان متمثلة بمحاولة التخلص من أكبر حجم ممكن من سندات الخزانة الأمريكية الممنوحة برهن العقارات وتحويلها إلى سيولة نقدية (وربما سيرافقها تغيير آخر في سعر الفائدة على الأغلب)!.
كل هذه الأمور التي تم التطرق إليها (بإيجاز مختصر) أدت إلى إلقاء أثرها على شبكة التعاملات النقدية العالمية، وألقت بظلالها على الأسواق المحلية لدى بلداننا ومنها العربية بالذات.
الأمر الذي يتطلب (رغمًا لا اختيارًا) على البنوك المركزية إلى اتخاذ خطوات مماثلة في رفع أسعار الفائدة على أموالها، وقد يتبعها تعويم بعض عملاتها على مراحل، كل مرحلة وفق ما يستوجب منها ذلك لمجاراة الواقع المفروض.
وبالتالي سيؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق المحلية (بما فيها المنتج المحلي)، نتيجة ارتباط مواده الأولية المستوردة بالعملات الأجنبية وبالتالي ارتفاع أسعار الإنتاج، وسيلقي ذلك كله بظلاله على المستهلك الأخير وهو المواطن الذي يفاجأ بارتفاع الأسعار من حوله دون دراية بالأسباب الخارجية والخارجة عن إرادة الاقتصاد الداخلي وأدواته المحليه التي يستوجب عليها رسم سياسات موازيه في خلق فرص والاعتماد على توفير «سياسة أمن غذائي» بالقدر المستطاع بالتوازي مع التقلبات العالمية؛ للعبور إلى ضفة الأمان على الأقل خلال هذه السنة حتى ختامها والتفكير في رسم سياسات أكثر ثباتاَ ودراسة للسنة أو السنوات القادمة.. والله الموفق والمستعان.