محمود العربي.. «شهبندر التجار» قصة كفاح بدأت بـ"٣٠ قرش"
محمود أبو السعود
أبو رقبة قرية صغيرة في محافظة المنوفية ولد فيها شخصية أثرت في اقتصاد مصر، خرجت من بيت بسيط جدا وأب مزارع بالأجرة وأسرة دخلها يكفيها يوم بيوم، هو إمبراطور تجارة الأجهزة الكهربائية رجل الاعمال محمود العربي.
مسيرة حافلة بالنجاح والإرادة تمشي على قدمين، عمرها ناهز سنوات طويلة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، قراءتها كانت كفيلة بشحذ الهمة والعزم والصمود في وجه التحديات لمن أسعده الحظ ليرى صفحاتها أو يسمع عنها ويناظرها على أمل القرب، هو نموذج نادر فريد لرجال أعمال الزمن الجميل، فكان من أوائل رواد المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات في العمل الوطني والاجتماعي والخيري.
رجل أعمال عصامي، يرفض الوجاهة ولا يحب الظهور كثيرا، يركز فقط في تجارته، بعيد عن السياسة من أنصار مقولة أنها مضيعة للوقت، والدولة بها ملايين السياسيين ولكن مجتمع رجال الأعمال قليل، والدولة لا تحتاج للثرثرة اكثر ما تحتاج للبناء وتحسين الاقتصاد.
قصة الـ٣٠ قرش
هكذا هو فكر صاحب إمبراطورية العربي لتجارة الأجهزة الكهربائية، بطل قصة النجاح اليوم بدأ طموحه في التجارة من سن خمس سنين عندما كان يدخر مصروفه طوال السنة اللي كان ٤٠ قرش يصرف ١٠ ويشتري بضاعة ب٣٠ قرش عبارة عن بلالين وألعاب يبيعهم لأهل قريته في العيد.
طموح طفل يحقق إمبراطورية اقتصادية
الطفل الطموح هو صاحب إمبراطورية تجارية وصناعية اسمها العربي جروب، إنه محمود العربي او شهبندر التجار كما يطلقون عليه، من أهم رجال الاعمال المصريين، تلك الامبراطورية لم تتوقف عند التجارة والصناعة، لكن لها جانب إنساني وخيري كبير جدا.
الحاج محمود العربي أنشأ مدرسة وكتاب مجاني ومستشفى عالمية تكلفت الملايين لأهل قريته، وأنشأ مؤسسة خيرية ينفق منها الملايين شهريا علي الأرامل والمحتاجين والفقراء.
موقفه مع أزمة كورونا وشكر السيسي للعربي
كسب ولاء العاملين في المجموعة اللي وصلوا لأكثر من ٣٠ ألف موظف بحسن المعاملة والتقدير وظهر في مواقف كثيرة كان آخرها موقفه في ظروف انتشار الكورونا و قرار ايقاف العمل لمدة شهر ونص عندما قام بصرف جميع مستحقات العاملين كاملة قبل موعدها ووعد بأن الشركة لن تتخلي عن أي موظف، الأمر الذي دفع الرئيس السيسي لتوجيه الشكر له على ما قدمه للعاملين في الشركة والمشاركة المجتمعية.
العربي خلطة تجمع بين التميز من الطفولة والطموح و السعي والإنسانية والشعور بالمسئولية المجتمعية.
ورغم حظه القليل من التعليم إلا انه استطاع أن يبني قلعة صناعية كبرى ويبلغ مكانة اقتصادية رفيعة، دون مساندة من أحد ودون أن يحصل على قروض من البنوك، فكان خير قدوة لكل طامح في النجاح.
إنه محمود العربي رئيس "اتحاد الغرف التجارية" السابق، وصاحب محلات ومصانع "توشيبا العربي"، وشهبندر تجار مصر عن جدارة.
ولد العربي عام 1932م في أسرة ريفية فقيرة بقرية "أبو رقبة" بمركز "أشمون" في محافظة المنوفية، توفي والده وهو في سن صغير، انتقل بعدها إلى القاهرة، ليعمل بائعا في محل صغير لبيع الأدوات المكتبية وعمره لم يتجاوز العاشرة، وفى عام 1954 التحق بالخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات.
من بيع البلالين إلى تجارة الأجهزة الكهربائية
بدأت علاقة العربي بالصناعة بإنشاء مصنع صغير للألوان والأحبار، ثم قام بتحويل مجال عمله من تجارة الأدوات المكتبية إلى تجارة وصناعة الأجهزة الكهربائية، وسافر إلى اليابان للحصول على توكيل من إحدى الشركات الكبرى في صناعة الالكترونيات، وبعد عودته أنشأ مصنعا، ودخل انتخابات "الغرف التجارية" ليصبح رئيسا لها لمدة 12 عاما، واتجه إلى السياسة لفترة قصيرة، عندما أصبح نائبا في مجلس الشعب "البرلمان" عن دائرتي السيدة زينب وقصر النيل، في تجربة وحيدة رفض أن يكررها بعد ذلك.
ويفتخر الحاج محمود العربي بأنه ولد لأسرة فقيرة لم تكن تمتلك أي شبر من الأرض، وكل ما استطاعت أن تقدمه الأسرة لابنها هو إلحاقه بـ "كتاب القرية" عندما بلغ من العمر 3 سنوات، وبدأ الابن في حفظ القرآن، الذي علمه الصدق والأمانة والفرق بين الحلال والحرام، ما ساعده على بناء سمعة طيبة اشتهر بها في جميع مراحل حياته.
التاجر الصغير
بدأ العربي التجارة في سن صغير جدا بالتعاون مع أخيه الأكبر، الذي كان يعمل بالقاهرة، وعن تلك الفترة يقول العربي: "كنت أوفر مبلغ 30 أو40 قرشا سنويا أعطيها لأخي لكي يأتي لي ببضاعة من القاهرة قبل عيد الفطر، وكانت هذه البضاعة عبارة عن ألعاب نارية وبالونات، وكنت أفترشها على "المصطبة" أمام منزلنا لأبيعها لأقراني وأكسب فيها حوالي 15 قرشا، وبعد ذلك أعطى كل ما جمعته لأخي ليأتي لي ببضاعة مشابهة في عيد الأضحى، وبقيت على هذا المنوال حتى بلغت العاشرة، حيث أشار أخي على والدي أن أسافر إلى القاهرة للعمل بمصنع روائح وعطور وكان ذلك في عام 1942م، وعملت به لمدة شهر واحد وتركته لأني لا أحب الأماكن المغلقة والعمل الروتيني".
راتب ٢٠ قرشاً في الشهر
بعد ذلك انتقل العربي للعمل بمحل بحي الحسين وكان راتبه 120 قرشا في الشهر، واستمر في هذا المحل حتى عام 1949 ووصل راتبه إلي 320 قرشا، بعدها فضل العمل في "محل جملة" بدلا من المحل "القطاعي" لتنمية خبرته بالتجارة وكان أول راتب يتقاضاه في المحل الجديد 4 جنيهات وعمل فيه لمدة 15 عاما، ارتفع خلالها راتبه إلى 27 جنيها، وكان مبلغا كبيرا آنذاك حيث تمكن من دفع تكاليف الزواج.
وفي عام 1963م سعى العربي للاستقلال بنفسه في التجارة، لكن لم يكن لديه ما يبدأ به، ففكر هو وزميل له بنفس العمل، أن يتشاركا مع شخص ثري، على أن تكون مساهمته هو وصاحبه بمجهودهما، بينما يساهم الطرف الثاني بأمواله، وكان رأس مال المشروع 5 آلاف جنيه، وهكذا أصبح لديه أول محل بمنطقة "الموسكي" بالقاهرة، والذي مازال محتفظا به حتى الآن.
سر المهنة
كانت تجارة العربي تقوم أساسا على الأدوات المكتبية والمدرسية، ولكن الحكومة قررت في الستينات صرف المستلزمات المدرسية للتلاميذ بالمجان، وهو ما يعني أن تجارة العربي لم يعد لها وجود، فاستعاض عنها بتجارة الأجهزة الكهربية، خاصة أجهزة التليفزيون والراديو والكاسيت، وحول العربي تجارته بالكامل إلى الأجهزة الكهربائية في منتصف السبعينات مع انطلاق سياسة "الانفتاح الاقتصادي"، وفكر في الحصول على توكيل لإحدى الشركات العالمية، لكن وجود الأدوات المكتبية في محلاته كان يقف حائلا دون ذلك، إلى أن تعرف على أحد اليابانيين الدارسين "بالجامعة الأمريكية" بالقاهرة، وكان دائم التردد على محلاته، وكان هذا الشخص الياباني يعمل لدى شركة "توشيبا" اليابانية، فكتب تقريرا لشركته، أكد فيه أن العربي هو أصلح من يمثل توشيبا في مصر، فوافقت الشركة على منحه التوكيل.
رحلة إلى اليابان
في عام 1975م زار العربي اليابان، ورأى مصانع الشركة التي حصل على توكيلها، وطلب من المسؤولين فيها إنشاء مصنع لتصنيع الأجهزة الكهربائية في مصر وهو ما تم فعلا، على أن يكون المكون المحلي من الإنتاج 40% رفعت لاحقا إلى 60% ثم 65% حتى وصلت إلى 95%، ومع تطور الإنتاج أنشأ شركة "توشيبا العربي" عام 1978م.
وفي عام 1980م انتخب العربي عضوا بمجلس إدارة "غرفة القاهرة"، واختير أمينا للصندوق، ثم انتخب رئيسا "لاتحاد الغرف.
٣٠ ألف عامل
وإذا كان العربي قد بدأ تجارته بعامل واحد إلا أنه أصبح اليوم لديه ٣٠ ألف عامل، موضحا أن الشركة الأم باليابان يعمل بها 180 ألف موظف، ويتمنى أن يصل لهذا الرقم في مصر لمساعدة الشباب والمساهمة في القضاء على البطالة.
يرفض التعامل مع أي تاجر اسرائيلي
موظفي شركاته يحصلون على رواتب مجزية تتفاوت حسب الكفاءة والمؤهل والخبرة، ويرفض تماما أن يعمل في شركاته أي شخص مدخن، ويشترط ذلك ضمن شروط التعيين، كما يرفض التعامل مع أي تاجر إسرائيلي، مؤكدا أنه ما دامت مشكلة احتلال الأراضي الفلسطينية باقية، فإنه لن يتعامل مع أي تاجر من إسرائيل، وقد سبق أن رفض مقابلة وفد تجاري إسرائيلي أثناء رئاسته لاتحاد "الغرف التجارية" لنفس السبب فهو من الرافضين لفكرة "التطبيع" مع إسرائيل.
وأخيراً يبقى الحاج محمود العربي رمزا من رموز الاقتصاد وتبقى رحلة كفاحه وعصاميته قدوة للأجيال وتأكيدا لقيمة العمل والاجتهاد باعتبارهما الطريق الوحيد لتحقيق النجاح كما تبقى تجسيدا لمقولة "أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة".