رضا طاهر الفقي
صفحات مجهولة من حياة الشعراوي
حاولنا جاهدين أن نخرج من أسر الرجل، وألا نكون دراويش في محرابه أو جلادين علي حياته، هبط على زماننا وهو علي حد قوله يحترم مهمته، وهي أن يربط الدعوة بأسباب دنيوية، وقد ساعدنا في هذا، حيث نفي مرارا وتكرارا أن تكون سيرته الذاتية موضوعا في حد ذاتها، في كل أحاديثه عن حياته كان حريصا على أن يضع بين أيدينا ثمار التجربة، لا التجربة نفسها.
ورحلة الرجل منذ مطلع القرن الماضي لم تكن رحلة عابر سبيل، بل كانت غزل خيط في نسيج الأحداث الوطنية، فخرج في مظاهرات، وعرف الاستجوابات والمظاهرات والسجن، فصار حتما أن يجد من يكتب عن الشعراوي نفسه مجبرا علي طرح تركيبة العصر ومتابعة مقدمات الأحداث والنتائج المترتبة عليها؛ مما يستوجب الغوص وراء التواريخ والأشخاص التي صنعت أو شاركت في كل ما يجري.
في أبريل من عام ١٩١١، ولد الشعراوي في قرية دقادوس، لأب يعمل في الزراعة، وحفيدا لجد اختصر الشعراوي حياته قائلا: كان جدي رجلا له في طريق الله مجال، وقد تفتحت عيناه على الدينا بعد رحيل الإمام محمد عبده، أحد شيوخ الأزهر الأفذاذ بست سنوات، وكان صدى أفكاره الإصلاحية ما يزال ملء السمع والفكر، وفي نفس العام الذي توفي فيه الإمام محمد عبده ١٩٠٥، شهدت مصر أول إضراب في عصرها الحديث؛ حيث قام الخياطون بإضراب؛ ليثمر هذا الإضراب قبل ميلاد الشعراوي بعام واحد ميلاد تسع نقابات للعمل، تضم ثلاثة آلاف عضو، وبعد مولده بثلاث سنوات، أعلنت بريطانيا الحماية علي مصر في عام ١٩١٤ ليواكب استعار نيران الحرب العالمية الأولي، إذن فقد جاء مولده وسط ثلاث قضايا هي كل الوطن؛ القضية الأولي تجديد الفكر، والثانية القضية الاجتماعية حقوق العمال، والثالثة القضية الوطنية، وهي التذمر من الاستعمار، حتى إذا بلغ أشُدَّه كانت ثورة ١٩١٩.
وعندما بلغ الصبي عتبة الشباب الأول، ودرجت عيناه على ثقافة عصره، إذا به داخل ضجه اهتزت لها مصر كلها، وذلك على مدى عامين متتالين هما عامي ١٩٢5 و١٩٢٦، ففي العام الأول أصدر الشيخ علي الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وهو الكتاب الذي تناول فيه قضية فصل الدولة عن الدين، واهتزت مصر كلها؛ حيث إن المؤلف من هيئة كبار العلماء وقاضٍ في محكمة المنصورة، وكان كتابه هذا جديدا على ذهن تمتد جذوره عميقة في أغوار التراث والأصالة، وفي العام التالي يُصدر طه حسين ـ مستخدما الشك الديكارتي في دراسة الشعر والادب العربي ـ كتابه " في الشعر الجاهلي، ومرة ثانية تموج الأشياء حول الشعراوي، وقبل ذلك بسنتين، أعلن أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية الإسلامية، وصار الوطن يتجه نحو آفاق جديده، كما شاهد وعيه تلك المعركة التي دارت رحاها بين الشيخ محمد نجيب ومحمد علي وزير الاوقاف في ذلك الحين، وقد رأى فيها الوزير أن نظام الوقف ليس إسلاميا، وإذا بالمفتي يتهمه علنا بالكذب والادعاء، بل وصل الامر باتهامه بالنفاق والكفر والإلحاد، وتطو رالأمر ليصل إلي البرلمان من خلال مقترح بإلغاء منصب المفتي، إنها بلا شك بداية مناسبه تماما لرجل قدر له أن يكون داعيه إسلامي، فإذا به منذ نعومة أظافره كما يقول نفسه: يسبح في بحر متلاطم الأفكار، ولا شيء يشحذ الذهن مثل احتدام القضايا، وفي الحلقة المقبلة نروي تفاصيل جديده من حياة الرجل والمحنة.