أرشد أحمد سمو
مقترب هارفرد في تحليل الصراع والحرب «الروسية – الأوكرانية»
توجد مجموعة من المداخل التي تم اعتمادها لتحليل طبيعة الصراعات الدولية في العلاقات الدولية، وهي كثيرة من بينها " المدخل الأيديولوجي – المدخل السيكولوجي- مدخل سباق التسلح- المدخل الواقعي- المدخل الجيوبوليتيكي- المدخل الاستباقي- مدخل طبيعة النظام السياسي للدولة الوطنية-" وغيرها من المداخل، ولعل ظاهرة الصراع الدولي باتت من أهم الظواهر الدولية التي حظيت باهتمام العلماء ومفكرو العلوم السياسية وحقل العلاقات الدولية، ولا شك أن التغير في النظام الدولي وانتهاء الحرب الباردة كانت لها تأثيرها المباشر على تحليل مضمون الصراعات الدولية وتفسيرها الامر الذي أدى الى ظهور مجموعة من المقتربات التي يمكننا استخدامها كأدوات لتحليل الصراع والتي يأتي في مقدمتها مقترب هارفرد (the Harvard approach).
فهل من الممكن ان نستخدم المدخل الجيوبوليتيكي ومقترب هارفرد في تحليل الصراع والحرب القائمة في الحدود الشرقية لاوكرانيا مع روسيا الاتحادية؟، من منطلق هذا السؤال نبدأ أولا في الأخذ بمقترب هارفرد ومن ثم نتناول المدخل الجيوبوليتيكي لتناول هذا الموضوع.
مقترب هارفارد the Harvard approach
يشير هذا المقترب الى الاختلاف الذي يقوم بين المواقف التي يعتمد عليها أطراف الصراع الدولي، من جانب، والمصالح من جانب آخر، وهذا المقترب يجادل في أن الحل المطلوب للصراع الدولي يكون من خلال التركيز على الفاعلين والتركيز على مواقفهم. إن الرؤية الاساسية التي يقوم عليها مقترب هارفارد هي الاختلاف في المواقف بين اطراف الصراع الدولي، فمن الطبيعي أن تختلف مواقف الدول المتداخلة في الصراع الدولي؛ اذ أن هذا الاختلاف يقوم على التعارض في المصالح بين تلك الاطراف، فعلى سبيل المثال يمكن تحليل الصراع الدولي بين روسيا والولايات المتحدة على انه اختلاف في المواقف بين تلك الدولتين والمحيط بهما، فروسيا من جهة لا تريد لحلف الناتو التوسع شرقاً لان ذلك من شانه أن يهدد أمنها القومي، وترى أن انضمام أوكرانيا لهذا الحلف من شأنه أن يهدد الحدود الروسية، أما الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف الناتو فيروا أن سيطرة روسيا على أوكرانيا واقتراب خطوط المواجهة والتماس بينهما من شأنه أن يهدد الأمن القومي لدول أوروبا والولايات المتحدة لأن ذلك الاقتراب يؤثر على مصالحهم بشدة، كما أن تحقيق الرغبة الروسية في السيطرة على أوكرانيا يعني نجاح روسيا في فرض قوتها على السياسة العالمية، فهذا الأمر من شأنه أن يهدد الامن القومي لدول حلف الناتو.
ولعل الازمة الحالية والتي نتج عنها تدخلا عسكريا من الجانب الروسي والقوات الانفصالية في إقليم دونباس الذي أعلن استقلاله عن أوكرانيا صورة واضحة من صور الحرب بالوكالة؛ فالواقع هو أن روسيا هي التي تحارب لكن المعلن عنه هو أن إقليم دونباس هو الذي يحارب، والمشكلة الكبرى تكمن في عدم قدرة حلف الناتو من التحرك عسكريا أو التدخل في المسالة أو الحرب بصورة مباشرة، فأوكرانيا دولة غير عضوة في حلف الناتو وحسب المادة الخامسة من ميثاق الناتو فلا يجوز لها أن تتدخل في صراع أو حرب لا يكون أحد اطرافه عضوا في الحلف. أن الصراع القائم الذي بدأ يتحول الى حرب فعلية منذ صبيحة 24/فبراير/2022 جعل المجتمع الدولي في موقف لا يحسد عليه، فالرئيس الأمريكي بايدن صرح بان أي تشابك للسلاح الأمريكي ضد الروسي سيعني قيام الحرب العالمية الثالثة، من جانب آخر بدأت ملامح التدهور الاقتصادي جليا في القطاع الاقتصادي العالمي الأمر الذي ينبئ بحدوث كوارث اقتصادية مما قد يؤدي الى ضرورة التدخل من جانب قوى دولية في حل النزاع القائم وإيقاف الحرب.
وبحكم التجارب السابقة لروسيا في ملفات مشابهة يبدوا لنا أن المسالة ستحسم لصالح روسيا الاتحادية وتطلعاتها كون الدول الأوربية لا تستطيع ان تستغني عن الغاز الروسي الذي يؤمن ثلثي مصادر الطاقة الغازية لاوربا، ناهيك عن طبيعة الخطاب المقتضب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اليوم الأول من بداية العمليات العسكرية الروسية ضد أهداف أوكرانية والذي حمل في طياته الكثير من الرسائل للدول التي قد تفكر بمواجهة روسيا اذ قال في خطابه المؤرخ في 24/فبراير 2022 ": أوجه الآن بعض الكلمات المهمة جدا إلى الذين قد تسول لهم نفسهم التدخل في الأحداث الجارية؛ أيا كان من سيحاول الحيلولة دون إجراءاتنا ناهيك عن تشكيل خطر على دولتنا وشعبنا، يجب عليه أن يعلم أن رد روسيا سيكون فوريا وسوف يؤدي إلى نتائج لم تواجهوها أبدا في تاريخكم" في نهاية خطابه الموجه بمناسبة بدء العمليات اختتم خطابه بالقول:" مستعدون لأي تطورات وقد تم اتخاذ كافة القرارات المطلوبة في هذا الخصوص، وآمل أن يُسمع كلامي" والاختلاف في المصالح بين طرفي الصراع هو العامل الحاسم في هذا الامر ومن ثم يمكن الاعتماد على مقترب هارفارد في تحليل طبيعة هذا الصراع وتفكيكه والوصول الى مجموعة من الاستنتاجات الخاصة به، حيث إن الاختلاف في الرؤى والأولويات بين الطرفين يساعد على تعقيد إمكانية الحل، ولذلك تمثل التعقيدات في السياسة العالمية ومحاولات كل طرف من الأطراف الوصول الى أهدافه الهاجس الأساسي في السياسة العالمية.
الموقف الروسي واضح ومعلن عنه ولا يحتاج إلى تفسير عميق فالخطاب وجهه متخذ القرار الروسي فلاديمير بوتين، فحينما يقول سنرد بكل قوة وبشكل فوري على كل خطوة مناوئة للقوات الروسية، فانه يعني ما يقول ؛ لا سيما اذا علمنا بالسيرة الشخصية لبوتين، وعرفنا تماما بنسقه العقيدي كقائد، ودرسنا نقاط قوته وشخصيته الكاريزمية التي تجعل من الاخرين الذين يتعاملون معه يحسبون له ألف حساب قبل أن يخطوا أي خطوة تجاهه، ولعل صورة الطاولة العملاقة التي جمعت بينه وبين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ستظل محفورة في ذاكرة التفاوض الدبلوماسي المعاصر. ان الحديث عن حرب عالمية ثالثة " تقليدية" لا يمكن ان يكون منطقيا في عصر العولمة وعصر الحداثة وما بعد الحداثة، لأن الحرب العالمية الثالثة ليس بالضرورة أن تكون متمثلة بجنود يحملون بنادق ويقفون في خنادق وجبهات مقابلة للطرف الاخر كما كان عليه الحال في الحرب العالمية الأولى والثانية، بل حروب العصر الحالي تعتمد على آليات حديثة وتكنولوجيا متطورة، ثم ان الاتجاه نحو اتخاذ قرارات من شانها ان تقضي على الملايين ليس بالأمر الهين أو البسيط، وهذا لا ينطبق على الغرب وأمريكا فقط بل ينطبق على متخذ القرار الروسي أيضا، فلا الولايات المتحدة الامريكية مستعدة للتضحية بالألاف من جنودها في حرب علموا مسبقا أنها ستقوم وهذا ما كان يصرح به الرئيس بايدن في الشهرين الماضيين مرارا وتكرارا، ولا روسيا والرئيس بوتين سيقدمان على زج العالم بحرب تكون نتائجها وخيمة وغير متوقعة.
المدخل الجيوبوليتيكي
يمكن تحليل طبيعة الصراعات الدولية وقياس تأثيراتها بالاعتماد على المدخل الجيوبوليتيكي وهذا المدخل يشير بطبيعته الى تلك الصلة بين التي تربط بين مساحة الأرض والموقع الجغرافي للدولة، وهذا المدخل بدوره يركز بصفة أساسية على الجوانب الجغرافية وتأثيره في سلوكيات الدول المتصارعة تجاه دولة ما، فعلى سبيل المثال اذا نظرنا الى الصراعات الدولية في العراق نجدها ترتبط بشكل كبير بالمدخل الجيوبوليتيكي لتلك الدولة حيث أن العراق تربط بين كثير من الدول المهمة فهي من جانب بوابة الدول العربية الشرقية، كما أنها تحد الجانب الايراني، والدول الخليجية، ومن جانب اخر يعد العراق بمثابة نافذة على الخليج العربي، ولذلك يؤثر موقعها الاستراتيجي الجغرافي على طبيعة الصراعات الدولية تجاهها. نفس الامر يمكننا تصوره مع الحالة في أوكرانيا والازمة الحاصلة بين حلف الناتو وروسيا بسبب انتهاكات الأخيرة للحدود الجغرافية التي تمثل سيادة أوكرانيا عقب التحشيدات العسكرية لروسيا على طول الحدود الشرقية لاوكرانيا، بمعنى اننا نستطيع من خلال المدخل الجيوبوليتيكي ان نحلل طبيعة الصراع الحاصل بين روسيا والعالم الغربي فيما يخص الازمة الروسية – الأوكرانية منذ مطلع العام الجاري 2022.
ان العامل الجغرافي للدولة كأحد أسس المدخل الجيوبوليتيكي تعتبر أحد مصادر الصراعات الدولية حيث يؤدي الجانب الجغرافي بدوره عاملا مهماً في احتمالية الصراعات الدولية نظراً لأهميته، كما أن الجانب الجغرافي من شأنه أن يؤدي الى سهولة في احتمالات اندلاع الصراع، وقد يكون العامل الجغرافي في حالة تجاور طرفي الصراع عامل مباشر في الصراع الدولي، كما هو الحال في المناوشات بين روسيا وأوكرانيا، فالتلاصق الجغرافي بين هاتين الدولتين هو أحد مصادر الصراع الدولي، وبصورة واسعة لهذه القضية الصراعية نجد ان التلاصق الجغرافي هو السبب المباشر لهذا الصراع، انطلاقا من رغبة أوكرانيا المعلن عنها في الانضمام لحلف الناتو والذي عاضته دول ووافقت عليه أخرى داخل الحلف ، وهو ما يشكل خطراً كبيراً على الأمن القومي الروسي، خاصة وان المجتمع الدولي والباحثين في العلاقات الدولية ورجال السياسة في مراكز صنع القرار العالمي يعرفون بالمساعي الروسية الحثيثة بعد تولي الرئيس فلاديمير بوتين للسلطة اذ وضع بوتين نصب عينيه أهدافا استراتيجية رامية الى استعادة الهيمنة الروسية واسترجاع مكانتها الدولية عالميا. في هذا السياق ومن باب الاستدلال بالواقع يضرب المثل في كثير من المجتمعات بان الذي يسكت عن فقدانه للدجاجة التي تبيض له ولا يبحث عنها ومن ثم يسكت ولا يحرك ساكنا حينما يفقد الجاموس الذي يحرث بها ارضه عليه ان لا يلوم الا نفسه حينما يفقد ما هو اهم من ذلك. نستفهم من ذلك ان المجتمع الدولي والقوى العظمى حينما سكتت ولم تردع روسيا للعدول عن الاستيلاء على جزيرة القرم، ولم تقف بوجهها في الازمة السورية ولا محاولاتها العديدة- والتي نجحت فيها- للاستيلاء على المواقع الجغرافية الاستراتيجية التي كانت تحت سيادة دول استقلت عن الاتحاد السوفيتي عقب تفكك الأخيرة في مطلع تسعينات القرن العشرين؛ نستفهم من ذلك ان ما تقوم بها روسيا اليوم انما هو نتيجة حتمية لسكوت المجتمع الدولي عن التطلعات الروسية في السابق. يعد المدخل الجيوبوليتيكي لتحليل أدوات وأسباب الصراع الدولي أحد أفضل المداخل لمعالجة تلك القضايا السائدة على الساحة الدولية في الوقت الحالي. كما ترجع أهمية المدخل الجيوبوليتيكي في دوره الهام والذي يقوم على تنشيط التوجهات الصراعية بين الدول، وفي ذات الإطار يندرج ضمن إطار نظري معلوم في العلاقات الدولية، والمدخل الجيوبوليتيكي يساعدنا على تحليل سلوكيات الدول بالاعتماد على مبدأ المسافة الدولية، وهذا المبدأ يمكن تعريفه بأنه تلك المسافة النسبية التي تقع بين الفاعلين الدوليين، وهذه المسافة تشمل بطبيعة الحال كافة الجوانب السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، ويطلق عدد من الباحثين على هذا التفسير للعلاقات الدولية مصطلح نظرية المحيط.
الحرب إلى أين؟
لا نريد هنا ان نستبق الاحداث؛ ففي السياسة كل شيء وارد؛ والثابت الوحيد في علم العلاقات الدولية والعلوم السياسية انه لا ثوابت فيها، فنحن نتعامل مع المتغيرات، وحينما لا تنفع الدبلوماسية في حل ازمة ما تتجه الأنظار نحو استخدام القوة، الا ان الامر هنا يختلف فالطرف المشترك في الحرب ليست دولة افريقية تفتقر الى ابسط مقومات الحياة ناهيك عن القوة العسكرية، او دولة هشة وغير متماسكة مثل بعض دول الشرق الأوسط؛ اننا نتحدث عن حرب احد أطرافها هي روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي السابق وصاحبة الترسانة النووية الهائلة والتي يقودها رئيس لا يمكن الاستهانة به كشخص وكقائد متحمس لاستعادة الهيبة والهيمنة الروسية وفرض نفوذها على طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة. عيون العالم متجهة نحو رد الفعل الأمريكي وردود الأفعال الاوربية لا سيما المانيا وفرنسا وبريطانيا، الا ان الواقع هو ان ردود أفعال هذه الدول تم الإعلان عنها سلفا، فالاتحاد الأوربي اكتفى بأرسال المساعدات العسكرية الى أوكرانيا دون ان تتدخل مباشرة في الحرب وكذلك الولايات المتحدة موقفها واضح ومن المستحيل ان ترسل جنودها الى جبهات القتال خاصة اذا تذكرنا انها سحبت قواتها من أفغانستان والعراق مؤخرا؛ فكيف تترك ساحة كانت تحت ايديها فعليا لتذهب بجنودها الى ساحة قتالية أخرى لا تعرفها ولا مصلحة مباشرة لها فيها؟ صحيح سعت أمريكا جاهدة الى انضمام أوكرانيا لحلف الشمال الأطلسي " الناتو" لتكون لها قواعد وموطئ قدم ملامس للحدود الروسية بغية الخناق على طموحات بوتين التوسعية؛ الا انها ليست بالغباء لتقدم على خطوة تدمر كل ما وصلت اليه الولايات المتحدة من رفاهية لمواطنيها وامن واستقرار نسبي الى درجة كبيرة مقارنة بالدول الأخرى. نستطيع ان نطلق على الفعل الروسي بعدة تسميات، فعندما نفكر بعقلية بوتين نراها حربا وقائية تتفق مع اغلب افتراضات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية؛ فهي تسعى نحو "البقاء والهيمنة" من خلال "القدرة "على استخدام ما لديها من "قوة" وتأثير للحفاظ على "مصلحتها القومية العليا وحمايتها". وهي أيضا "حرب استفزازية" الهدف منها معرفة ردود الأفعال الدولية وبالأخص رد فعل الولايات المتحدة الامريكية والصين، لأنها تريد فعلا ان تتأكد من ردة الفعل الامريكية لتقيس ذلك في محاولات توسعية مستقبلية، كما انها تهمها ان تعرف موقف الصين الحقيقي حينما يقدم طرفا دوليا على مواجهة روسيا فعليا. لذا يمكننا ان نصفها بـ “حرب قياس الضغط". موقف دول اوربا الغربية واضح أيضا فهي لن تتدخل مباشرة في الحرب، ستهدد وتندد وتعلن قطيعة دبلوماسية او عقوبات اقتصادية، الا انها في نهاية الامر ستعترف بالأمر الواقع كما حدث مع ازمة القرم وغيرها من الازمات التي كانت روسيا الاتحادية طرفا مباشرا فيها؛ فالمصالح التي تربطها بروسيا أكبر بكثير من ان تقرر الاستغناء عنها.