نسل الأغراب.. صعيدكم غريبٌ عنّا!
نشتاقُ إلى صعيدنا، نَحِنُ لرؤيته مجددًا في الدراما التليفزيونية، بلهجته وعاداته وتقاليده، بنزعته القبلية وشطحاته الثأرية، بكل ما فيه من قيم ومبادئ وأخلاق ورجولة صخرية، كظهر الجبل الذي يلف نجوعنا وقُرانا.. ذاك الصعيد الذي تربينا فيه وفي كل زاوية بالقلب ركن به أرفف، تعتليها ذكريات نشتم فيها رائحة ندى الصباح على عيدان ربيع العمر الذي عشناه فيه.
غاب النص الجيد عن القصة والسيناريو والحوار وحلّقَ الإخراج بعيدًا خارج فضاء الواقع؛ فاتسعت الهوة جدًا بين الحقيقة والخيال، وبين الصورة ومتطلبات العمل الدرامي، لينحدر مؤشر الإبداع ويغرس في وحل الدراما الحالية.. بين صعيد «المؤلف» محمد صفاء عامر و«المولِف» محمد سامي ملايين السنين الإبداعية، وبين صعيد المخرج مجدي أبوعميرة و«المُخرب» ـ أيضا ـ محمد سامي آلاف من الأميال، في كل ميل محطة عليها لافتة مكتوب فيها «الموهبة لا تُشترى».
(1)
«الدراما في رأيي أهم من التعليم الجامعي؛ لأن التعليم فرض واجتهاد يُخرج التكنوقراط، لكن الدراما تبنى المجتمع وجدانيًا ووطنيًا وثقافيًا وتساند الدولة فى قضاياها»، كلمات للمؤلف والسيناريست الكبير محمد جلال عبد القوى، وهو يتحدث عن وصف العمل الدرامي التلفزيوني الجيد، الذي يقدم نماذج بنّاءَة تُعلي من قيم المجتمع، وتساهم في تطوره ورُقيّه مع الاحتفاظ بأصالته وجمال طبيعته.
سنوات طويلة تغرّب فيها الصعيد عن الدراما، وبتنا نشتاق إلى مشاهدة عمل تليفزيوني صعيدي ينقل الصعيد بصورته ولباسه ولهجاته ولون وجوه ناسه، مثل رائعة إسماعيل عبد الحافظ وبهاء طاهر في «خالتي صفية والدير»، وملحمة «صعيد هوارة» مع الثنائي محمد صفاء عامر ومجدي أبو عميرة في «ذئاب الجبل»، ورقص القلوب على موسيقى ياسر عبد الرحمن في «الضوء الشارد».
تاه الصعيد في الدراما التليفزيونية، عندما غاب المبدعون عن كتابة السيناريو المبني على معايشة حقيقية وخبرات عمرية وجذور ممتدة عبر الكلمات والأحداث، فتصدر للمشهد كُتّاب لا تعرف إن كانوا مؤلفين أم مخرجين، إلا أنك تعرف أنهم تناولوا الأعمال التليفزيونية «شاكب راكب»، بلغة صنايعية النجارة، قصة وسيناريو وإخراج وتمثيل، فلم نرى دراما ولم نرِ إبداعًا.
(2)
هنا لا أهاجم عملًا دراميًا؛ ولكن انتقد كم «الأفورة» في أعمال الدراما الصعيدية التى تطل علينا كل عام في شهر رمضان الذي تحول لشهر دراما الدم والبلطجة، واختص بالذكر مسلسل «نسل الأغراب»، الذي تدور أحداثه عن صراع بين أبناء عمومة في الصعيد، ولا أعرف ولا يعرف غيري صعيدًا مثل هذا «الصعيد الأغرابي»، الذي يقتل فيه أبناء العم بعضهم البعض ويختطفون النساء ويحرقون ويفعلون أشياء لا هي من عادات الصعيد ولا تقاليده.. نعم نحن من قلنا: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، لكن نحن مّنْ نؤمن أيضا أن «العم» والد وليس «الخال»، وأن للعم حُرمته واحترامه وتقديره وكلمته المسموعة التى لا تقل عن كلمة الأب.
(3)
ما نراه في المسلسل غريب عنّا لحد الاشمئزاز، فكأن الصعيد به مخلوقات من كوكب آخر، فجَهِل المؤلف والسيناريست والمخرج والـ3 ×1 محمد سامي: أننا نأكل الطعام ـ عادي جدًا ـ ، ونمشي في الأسواق، ونحب ونكره ـ عادي جدا ـ، وليس كل سيئ نقول عليه «عِفش» نلفظه أيضا بـ«معفن» و«وحِش»، و«هباب» و«قطران»، وأغنياؤنا يمتلكون الخيل والبغال والسيارات ويسكنون قصورًا فارهة، ولكنها ليست قصورًا بها صرح ممرد من قوارير في صعيد التجمع الخامس، ولدينا عادات سيئة جدًا في قضايا الثأر يتشابه فيها «المتعلم، والجاهل، ورجل الشرطة، والجالس على منصة القضاء» جميعهم في هذا الأمر على حد سواء، ولسنوات طويلة عانى صعيدنا من ويلات الثأر، لكنه رغم ذلك كان يحتفظ بأخلاقه وعاداته وتقاليده، فالثأر لدينا لا يؤخذ إلا من الرجال وليس فيه قتل للنساء ولا الأطفال ولا تمثيل بالجثث ولا حرق للبيوت، ولدينا مجلدات ضخمة في كتب قصص الثأر بصعيدنا لا تحمل بين أغلفتها إلا «شرف الخصومة وغباء الموروثات».. كان مثلًا إذا توجه غريب لزيارة صديق وضل طريقه وقادتاه قدماه ـ دون أن يعلم ـ لبيت شخص «طالبُ ثأر أو عليه ثأر» يلتمس منه معرفة عنوان صديقه ووجهته، فيأخذ المسؤول السائل من يده بعد أن يُضايفه حاملًا بندقيته على كتفه ويتوجه به إلى بيت غريمه وينادي عليه: «يا فلان لديك زائر» ولا يجرؤ أي منهما على قتل الآخر أو الأخذ بالثأر على غِرةِ أو خدعة، حتى لا يُعاير أبد الدهر ويلحقه الخزيان.
(4)
إن ما نشاهده في هذا العمل اللادرامي ـ نسل الأغراب ـ بعيدًا كل البعد عن الصعيد، مبالغة في الكلام وتصّنع في اللهجة، وركاكة في الحوار، وتركيب بلا مبرر للشخصيات و«أفورة» مبالغ فيها في صراع بين وجوه «متسودة بأفواه مفتوحة وأسنان مطلية»، فليست هذه الأشكال تشبهنا ولا هذه الحياة حياتنا سابقًا ولا في عام 2021.
(5)
ما لا يعرفه المؤلف، أن الصعيد ليس به قبائل للغجر ولا الغوازي، بل كانت تأتي الغوازي من محافظة شهيرة في وجه بحري، تجوب الموالد المقامة في الصعيد، وحتى غجر «محمد سامي» لا يشبهون أي غجر، فشتان بين غجر يركبون سيارات فارهة ولديهم الأموال الطائلة، وغجر الترحال الذين امتهنوا الرقص يجوبون البلاد من أجل لقمة العيش.
(6)
في كتابة الدراما الصعيدية، يخرج الإبداع من بين سطور صفحات سيناريو كُتّاب، ولدوا وتربوا في الصعيد وشربوا لهجاته وعاداته، وسلكوا طريق الإبداع السينمائي، فنرى عظمة الصعيد وقوة الأداء وروعة الصورة ودقة الألفاظ في «الرحايا.. حجر القلوب»، و«الخواجة عبد القادر» لابن سوهاج السيناريست الموهوب عبد الرحيم كمال، ويبقى مسلسل «الكبير قوي»، أكثر مسلسل جاء بِكم مفردات وكلمات صعيدية مستخدمة منذ مئات السنين، ومازال الكثيرون ممن لم تأخذهم المدينة وتبدل ألسنتهم وألبستهم يحتفظون بهذه اللهجة الواضحة الصريحة دون عناء أو تكلف.